يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
صالح عليه السلام وثمود
(منقول)
أهلك الله عاداً بذنوبها، وكان هلاكها بالإعصار العاتي شديداً
ثم أورث الله ثمود أرض عاد وديارهم، وكانت مساكن ثمود بـ (الحجر)
وموقعها بين الحجاز والشام إلى ساحل البحر الأحمر، وهي غير بعيدة
عن ديار عاد ومدائن صالح ظاهرة حتى اليوم، والمكان الذي كانت فيه
ديارهم يعرف اليوم بـ (فج الناقة).
وقد بنى قوم ثمود في أرض (الحجر) قصوراً رفيعة في سهولها
واتخذوا في الجبال بيوتاً ينحتوها نحتاً، وذلك لطول أعمارهم
فقد كانت الأبنية تبلى قبل فناء أعمارهم.
خلفت ثمود عاداً على ديارهم فعمروها أكثر مما عمروها
وفجروا العيون وغرسوا الحدائق والبساتين فعاشوا (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).
(وزروع ونخل طلعها هضيم)
فأي حياة هانئة رغيدة أسبغها الله عليهم!
وأي نعيم عظيم كانوا فيه يعيشون!.
وفي هذا النعيم الواسع والترف المسرف عاش قوم ثمود منغمسين في اللذات
يقبلون عليها بشره ونهم، فيتفننون في الأكل والشرب والسكن لاهين عابثين.
ومع كل هذا النعيم الواسع والخير العظيم الذي أنعم الله به على ثمود
فإنهم لم يشكروا الله سبحانه، بل عبدوا الأصنام، وطغوا في الأرض
وأفسدوا فيها فساداً كبيراً، ولم يتفكروا في آيات الله الخالق العظيم
التي تملأ الأرض والسماء أي امتلاء!.
الرسول والرسالة:
بعث الله صالحاً عليه السلام نبياً إلى ثمود،
وهو من أشرفهم نسباً وأوسعهم جلماً،
وأصفاهم عقلاً.
فدعا قومه ثمود إلى عبادة الله وحده:
(يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
وحذرهم صالح من عقاب الله، وطلب منهم
أن يطيعوه ويسمعوا نصيحته، فقال لهم:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ).
وحذّرهم كل الحذر من الاستسلام لكبرائهم المجرمين
الغارقين في الكفر والطغيان، ونهاهم عن طاعتهم،
وبين لهم سبب ذلك خير بيان:
(وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ).
وذكرهم صالح بنعم الله العظيمة عليهم،
وطلب منهم أن يذكروها ويشكروا الله عليها، فقال:
(فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ).
وحذرهم من الفساد في الأرض وقال:
(وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
ودعاهم سيدنا صالح أن يستغفروا ربهم من ذنوبهم ويتوبوا إليه،
فلا يرجعون لاقترافها.
وكان عليه السلام يذكرهم أبلغ التذكير، ناصحاً لهم مشفقاً عليهم،
وواعظاً لهم، مرغباً في الخير كله...
وخوفهم بأس الله وعقابه، إذا أصروا على كفرهم وضلالهم وطغيانهم.
ويمضي الزمن وصالح يؤدي رسالته الكريمة أعظم الأداء،
ولكن القوم كانوا كأنهم لا يسمعون، فما آمن له إلا الضعفاء من قومه،
وهم القلة من الناس، أما أهل المال والقوة والسلطان فأمعنوا في
البغي والكفر والطغيان، وأصروا على عبادة الأوثان،
واتهموا صالحاً بالخلل في عقله، وردوه متهمين
إياه بأنه سحر حتى غلب على عقله:
(إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا).
ثم طال الجدل واحتدم النقاش بين الذين آمنوا
بصالح وبين الذين كذبوه حتى:
(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)
للذين آمنوا بصالح:
(إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ).
وهكذا انقسم القوم فريقين متضادين،
يتنازعون في شأن الدين:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ).
التحدّي
وأخذ الملأ الذين يحاربون دعوة صالح، يشعرون أن حججهم ضعيفة
لا تقنع العقلاء من الناس ذوي القلوب النقية الصافية،
فلا عاقل يستطيع القول أن عبادة الأصنام الصماء،
فضل من عبادة الله العزيز الرحيم، الواحد القهار.
وكان صالح يدعو إلى الخير كله، وينهي عن الفساد والظلم،
فأخذ الناس يستمعون إليه، حتى صار بعضهم القليل
يؤمن به وبدعوته الكريمة.
فخاف كبراء القوم وسادتهم الطاغون، على مصالحهم،
وخشوا على زوال سلطانهم فأعلنوا موقفهم المعادي لصالح:
(فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ)
لذلك حاولوا أن يقللوا من شأن صالح في أعين قومهم،
وأرادوا أن يظهروه بمظهر العاجز غير الصادق في ما يقول، فتحدوه قائلين:
(مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
قالوا هذا، وأشاروا بكل تكبر وغرور، إلى صخرة عظيمة،
وطلبوا منه أن يأتيهم بمعجزة تثبت صدقه ليؤمنوا به فقالوا:
أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة حقيقية!.
قالوا ذلك بقصد السخرية والاستهزاء، بتعجيزه في طلب المستحيل منه.
لكن صالحاً، نبي الله الكريم يعلم بكل يقين أن الله قادر
على أن يخلق ما يطلبون، لذلك أجابهم بكل جد،
بأنه سيخرج لهم من الصخرة ناقة تكون لهم آية،
آية بينة حية بينهم تدلهم على قدرة الله سبحانه وصدق نبيّه،
لكنه حذرهم بأن لا يمسوها بأذى أو سوء، فأجابوه موافقين وهم يسخرون،
ظانين أنهم أوقعوه في شراك المستحيل الذي سيكشف عجزه أمامهم.
الناقة المعجزة
وها هي الصخرة الصماء تتمخض فتلد، تلد ناقة ضخمة الجسم،
مثيرة الهيئة ولدت بمشيئة الله سبحانه بعد أن دعا صالح ربه
فاستجاب له وكانت فخمة مهيبة، سوداء الحدق، حمراء الوبر،
أرعبت أنعامهم وأخافت إبلهم، فقالم صالح يعلن لهم عن هذه
المعجزة التي تدل على صحة نبوته، فقال:
(قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً).
وذهل القوم أي ذهول، وهم يشاهدون بأم أعينهم الناقة الضخمة،
وهي تولد من الصخرة الصلدة الصماء، فاهتزت نفوسهم،
وصدمت عقولهم التي بلّدتها عبادة الأصنام، فآمن قليل منهم،
وبقي أكثرهم على عنادهم وتكبّرهم بقوا صامتين كآلهتهم الصماء.
فكرر عليهم صالح الدعوة آملاً أن تجعل المعجزة
قلوبهم وعقولهم أقرب للإيمان، وأبعد عن الكفر والعصيان،
فراح يذكرهم بنعم الله الكثيرة عليهم.
وبعد أن هزت المعجزة قلوبهم، قال لهم يستميلهم للإيمان
ويحذرهم من الفساد في الأرض:
(وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ
تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا
فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
ذكرهم سيدنا صالح بكل هذه النعم السابغة،
والناقة المعجزة تروح وتغدو بينهم،
تذكّرهم صباح مساء، بمعجزة الله لنبيه الكريم صالح،
واستمر يدعوهم إلى الهدى، بعبادة الله وترك الأصنام
التي عبدوها تقليداً لآبائهم.
الناقة والماء
ها هي الناقة تمشي أمام أبصار تمود، فخمة مهيبة جميلة،
فكانت معجزة حقاً لكل ذي قلب سليم، وأخبر صالح قومه بالشروط
التي يجب أن يراعوها لتبقى الناقة المعجزة حيّة بينهم، وحذّرهم من إيذائها فقال لهم:
(هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
فهي (نَاقَةُ اللّهِ) خلقها من حجر صلد، لتكون آية لهم، فيتفكروا ويؤمنوا بالله القدير،
وهي تحت رحمة الله ورعايته، فمن تعرض لها بسوء ناله العذاب الشديد،
وليس هذا حسب فقد حدد لهم صالح طريقة معيشتها بينهم فأخبرهم:
(أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ).
موضحاً بأنها ناقة:
(لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ).
وأكثر من هذا فإنها ناقة فتنة وابتلاء لهم:
(إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ).
وهكذا، راحت الناقة تشرب الماء من بئر ثمود الوحيدة،
يوماً كاملاً لها، لا يشاركونها فيه، وكانت إذا شربت أتت على الماء كله في يومها.
أما اليوم التالي فيكون ماء البئر لهم وحدهم، ولهذا وجدوا أنفسهم في الابتلاء
الذي أراده الله، فلم يعد الماء يكفيهم بين يوم ويوم، فكرهوا مقام الناقة بينهم.
وكانت الناقة تصيّف إذا جاء الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم،
وتهبط إلى بطن الوادي في حره وجذبه، وكانت الناقة تشتو في بطن الوادي
فتهرب مواشيهم إلى ظهره في برد وجذب، فأضر ذلك بمواشيهم الأمر الذي يريده
الله تعالى بهم والبلاء من الاختبار، فكبر ذلك عليهم، فعتوا عن أمر ربهم فأجمعوا على عقرها.
الاعتداء على الناقة:
واجمعوا على قتل الناقة، ولكن فيهم من الترددّ ما كان يمنعهم من ذلك،
فهي الناقة المعجزة، التي رأوها تولد من الصخرة بأم أعينهم،
ومعها كان يتراءى لهم تحذير صالح عليه السلام من أن يمسّوها بسوء.
ولكن سرعان ما حسمت هذا التردد امرأتان، كانت لهما إبل ومال وجمال،
إحداهما كانت تسمى (صدوق) وقد عرضت نفسها لمن يقتل الناقة!
فانجذب إليها شقي اسمه (مصدع بن مهرج).
وكانت الامرأة الثانية يقال لها (عنيزة)،
وكانت لها بنات حسان جميلات، فعرضت إحدى بناتها
على شقي آخر اسمه (قدار بن سالف)، فاستجاب لها،
موافقاً على عقر الناقة وقتلها، وكان قدار بن سالف
هذا شريفاً في قومه ورئيساً مطاعاً فيها وهو أشقى القبيلة،
ثم أغزى هذان الشقيان سبعة رجال آخرين، ليشاركوهما
في تنفيذ الجريمة الشنيعة، بقتل ناقة الله معجزة سيدنا صالح عليه السلام.
ورمى (مصدع) الناقة بسهم أما (قدار) فأقبل عليها بسيفه بسرعة ونشاط،
واقتسم أهل المدينة لحم الناقة وعدوا ذلك اليوم عيداً لهم فاحتفلوا
فيه فرحين لاهين، وهم غافلون عن عقاب الله،
ثم إنهم لم يكتفوا بهذه الجريمة الفادحة،
بل هزئوا من صالح،
وطلبوا منه أن يأتي بالعذاب الذي أنذرهم به،
فقالوا ساخرين:
(يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).
فيا لتعاستهم وشقائهم إذ تجرأوا على الله،
ولم يعلموا بسبب سفاهتهم وكفرهم
(إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ).
المهلة القصيرة قبل العذاب
ونظر النبي الكريم فرأى ناقة الله قتيلة،
ورأى الطغاة المجرمين تصطبغ سيوفهم وأيديهم بدمائها الكريمة البريئة،
نظر سيدنا صالح، فملأ الحزن قلبة، لأن المجرمين فعلوا فعلتهم الشنيعة،
وملأ الحزن قلبة الزكي أيضاً لأنه أيقن – بعد هذا –